كتاب قصتي للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم

الیوم هو السادس من دیسمبر 2017 . لم أتناول إفطاري حتى الساعة الحادیة عشرة صباحاً؛ كنتُ مشغولاً بإطلاق مشروع جدید. تعوُّدت على إطلاق الكثیر من المشاریع، لكن هذه المرّة المشروع مختلف

<>بعد تولّي والدي الشیخ راشد مقالید الحكم في دبي، بدأتُ معه أولى زیاراتي الخارجیة، حیث رافقته في زیارة إلى محمد رضا بهلوي شاه إیران، أو كما سمّى نفسه لاحقاً الإمبراطور، أوملك الملوك (شاهنشاه)، وعرشه هو عرش الطاووس.

كنتُ في السابعة أو الثامنة من عمري عندما بدأ والدي یأخذني لأحد شیوخ المناصیر في الصحراء، واسمه حمید بن عمهي، لأتعلَّم منه الصید. وحمید لم یكن یسكن قرب الماء مثل بقیة البدو، بل كان بعیداً في الصحراء؛ مع زوجته وإبله وصقره وكلبٍ للصید ومضارب خیم.

راشد بن سعید، معلّمي الأول. كان فارع الطول؛ ترتسم التجاعید على ملامحه لكثرة التبسُّم، أما الخطوط المحیطة بعینیه فأضفت هیبةً وجدِّیةً على وجهه. كان صوته هادئاً ودافئاً وقریباً من النفس.

لطیفة في اللغة هي المرأة الناعمة، الرقیقة، الرفیقة، النادرة..لطیفة في الاصطلاح هي المقولة التي تشرح الصدر..لطیفة في الحیاة هي أمّي وقلبي الذي في صدري، وأجمل وأنعم وأرقُّ وأرفق إنسانة في حیاتي.

في صباي یقول نزار قباني في رثاء شریكة حیاته بلقیس: بلقیسُ.. كانت أجملَ الملكاتِ في تاریخ بابِلْ بلقیسُ.. كانت أطولَ النّخْلاتِ في أرضِ العراقْ كانت إذا تَمشي.. ترافقُها طواویسُ.. وتتبعُها أیائِلْ

أمي، لطیفة بنت حمدان، كنتُ أحبُّها، وكانت تحبُّني. وأزعم مثل أيّ طفل أنني كنتُ الأحبَّ إلیها. ومن عظمة الأم أن كلَّ طفل یحسُّ بأنه الأقرب إلیها. عندما كبرتُ، كنتُ حریصاً على إسعادها. كنتُ حریصاً مع كل سَفرة على إهدائها ما تحبّ. كان فرحُها یسعدني، وابتسامتُها تصنع یومي، وحدیثُها أكثر ما یؤنسني في هذه الحیاة.

دبي لیست صدفة. دبي هي ثمرةُ رحلة استمرت أكثر من 185 عاماً. دبي هي قصةٌ طویلةٌ من الكفاح والتغلُّب على مخاطر هدّدت وجودَها واستمراریَّتها. دبي الیوم دانةُ الدنیا، وستبقى بإذن الله.

متى كانت آخر مرة تقوم فیها بشيء لأول مرة؟ كان هذا سؤالاً لأحد الإعلانات الخاصة بشركة “طیران الإمارات”. وبعد السؤال یبدأ الثلج في النزول عبر نافذة أحد الفنادق، ثم یخرج مسافران للاستمتاع بالثلج لأول مرة في حیاتهما.

من الذكریات التي لا أنساها أبداً وقت طفولتي، ذكریاتي عن وفاة أطیب رجل عرفته في حیاتي؛ جدّي الشیخ سعید بن مكتوم، رحمه الله.

دروس راشد بن سعید لا تنتهي. كان مدرسة، وكان معلِّماً، وكان حاكماً، وكان أباً للجمیع. یبدأ یومه مع صلاة الفجر، ومنه تعلمتُ هذا الدرس، وما زال استیقاظي حتى الیوم یبدأ مع صلاة الفجر.

بدأ الشیخ راشد حكمه بطاقة كبیرة وحماسة عالیة وروح متَّقدة. كل یوم في حكم راشد كان مدرسةً بالنسبة لي. في كل یوم فكرة، ومشروع، وحكمة.

یمیلُ الكثیر من الرجال إلى أن یكون لدیهم “كهف” خاص بهم، یلجؤون إلیه، بحیث یسعون من خلاله إلى ممارسة هوایاتهم، أو الابتعاد عن ضجیج البیت، أو الاسترخاء بعد عناء یوم طویل. نمت هذه الرغبة في أن یكون لدي كهفي الخاص عندما كنتُ صغیراً.

هل تعرف ما هو الفرق بین الحبّ الأول والخیل الأولى؟ لا یوجد فرق. الخیل الأولى والحبّ الأول وجهان لعملة واحدة بالنسبة لي. أحبُّ الخیل منذ الصغر. تربیتُ في بیت كان والدي یجول بحصانه الصقلاوي في أرجاء دبي، ویقوده من غیر زمام.

كما الخیل الأولى، یكون السباق الأول؛ مناسبة یستحیل أن أنساها ما حییت، ولحظات إثارة وترقُّب ما زلتُ أشعر بها كلما تذكرتُها. إنها اللحظات الأولى دائماً؛ تبقى معنا، لا تذهب، الخیل الأولى، السباق الأول، الحبّ الأول. هي لحظاتٌ تبقى محفورةً للأبد.

شكلت رحلتي الأولى إلى لندن في صیف عام 1959 مع والدي محطةً فارقةً في طفولتي. أحببتُ لندن قبل الوصول إلیها. وصفتها لي والدتي عندما أخبرتني عن الخضرة الممتدة على مدّ البصر، والأشجار التي تملأ الشوارع. أخبرتني بأننا سننام في مبنى شاهق، لأن الجوَّ هناك یناسبه النوم في الداخل ولیس كما نفعل في دبي عندما ننام على السطح.

طلب مني والدي أن أضیف مهارةً جدیدة إلى مهاراتي، وخبرةً مختلفةً إلى خبراتي، وجانباً آخر من الحیاة لم أعتد النظر إلیه؛ مهارة التعامل مع البحر والمشاركة في رحلات الغوص. كنت قد اعتدتُ السباحة في میاه البحر الضحلة مع الأصدقاء. ما أذكره أنّ للبحر رائحةً وصوتاً.

شعرتُ بیدٍ تهزّ كتفي بلطفٍ وأنا أغطُّ في النوم. لم أجهد نفسي في معرفة من أیقظني، وظننتُ في بادئ الأمر أن هذا یحدث لي في عالم الأحلام. “محمد، محمد استیقظ، هذا أنا مكتوم”. رجع إلى الوراء لأنه یعلم أن ردّ فعلي الأول سیكون النهوض من الفراش بسرعة استعداداً للقتال.

لم یواجه والدي صعوبةً في التعامل مع البریطانیین الذین یجیئون إلى مجلسه سواء كانوا من العسكریین أو التجار؛ إذ كان یقابلهم بابتسامة لطیفة تفیض تعابیرها من عینیه. كان الأمر ذاته مع الأمریكیین من دبلوماسیین أو مستثمرین، والذین كان یخبرهم بقصّة أو یروي طرفةً. ومع ذلك، فقد كانت كل تلك الجلسات المطوّلة في المجلس تتمّ بوجود مترجم، بینما

ینثر والدي بضع كلمات إنجلیزیة هنا وهناك خلال حدیثه.